مشروعية القيام عند ذكر ميلاده صلى الله عليه وسلم في الاحتفال بالمولد النبوي

يسعد شبكة النجوم الإسلامية أن تقدم لقرائها الكرام بحثا موجزا حول مشروعية القيام عند ذكر ميلاده صلى الله عليه وسلم في الاحتفال بالمولد النبوي، تعظيما لمكانته صلى الله عليه وتوقيرا لرتبته العلية، وذلك لسد حاجات طلبة العلم المهتمين بالبحث عن المسائل المتعلقة بالقضايا الإسلامية التي أثيرت حولها الخلافات في الفترات الأخيرة، والراغبين أيضا في معرفة الأدلة الشرعية في هذا الأمر.

 

وتأمل شبكة النجوم الإسلامية أن يستفيد الباحثون الإسلاميون بشكل خاص والمجتمع الإسلامي بشكل عام من هذا الموضوع الذي له أهمية كبيرة عند المسلمين في العصر الحالي، وإليكم البحث في هذه المسألة نقلا عن كتاب المقاصد السنية في أحوال العلماء وتراجم الصوفية للعلامة فضيلة الشيخ عثمان بن الشيخ عمر بن الشيخ داود “شيخ عثمان حدغ” الذي سيخرج إلى ا لنور لاحقا إن شاء الله تعالى.

 
 قال الله تعالى في كتابه العزيز في إشارة إلى حتمية تعزيره وتوقيره صلى الله عليه وسلم: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه}، فإن ضمير وتوقروه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما قاله الحافظ ابن الجوزي في المدهش وعبارته: قد تجمع العرب شيئين في كلام فيردّ كل واحد منهما إلى ما يليق به، وفي القرآن الكريم {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} فالسكون بالليل وابتغاء الفضل بالنهار، ومثله قوله تعالى: {وتعزروه وتوقروه وتسبحوه} فالتعزير والتوقير للرسول، والتسبيح لله عز وجل اهـ.
 
وقال ابن الجوزي أيضا في تفسير سورة براءة: قوله تعالى: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزِّروه وتوقِّروه} يعني النبي صلى الله عليه وسلم، {وتسبِّحوه} يعني الله عز وجل اهـ.وقال الماوردي في تفسير قوله تعالى:{وَتُوَقِّرُوهُ}: المراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعزروه ويوقروه، فجاز أن يكون بعض الكلام راجعاً إلى الله وبعضه راجعاً إلى رسوله، قاله الضحاك اهـ.وقال أبو حيان في تفسيره: {لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه} يعني الرسول، وتسبحوه: يعني الله تعالى اهـ.
 
وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وتعزروه وتوقروه}: الهاء فيهما للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهنا وقف تام، ثم تبتدئ” وَتُسَبِّحُوهُ” أي تسبحوا الله” بُكْرَةً وَأَصِيلًا” أي عشيا. وقيل: الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل” تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ” أي تثبتوا له صحة الربوبية وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك.
 
 واختار هذا القول القشيري. والأول قول الضحاك، وعليه يكون بعض الكلام راجعا إلى الله سبحانه وتعالى وهو” وَتُسَبِّحُوهُ” من غير خلاف، وبعضه راجعا إلى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو” وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ” أي تدعوه بالرسالة والنبوة لا بالاسم والكنية اهـ.ولا يخفى أن القيام عند سماع اسمه صلى الله عليه وسلم لاحترامه وتبجيله من التوقير المأمور به في هذه الآية الكريمة.
 
ومما يدل على مشروعية القيام لتعظيمه ما ورد في قصة حال الإمام أحمد بن حنل عند ذكر اسم إبراهيم بن طهمان في حضرته، ونص القصة ما يلي:
 
 روى الخطيب البغدادي بسنده عن أبي زرعة عبيد الله بن عبد الكريم قال: سمعت أحمد بن حنبل وذُكِر عنده إبراهيمُ بن طهمان وكان متكئا من علة فاستوى جالسا وقال: لا ينبغي أن يذكر الصالحون فيتكأ اهـ. وفي تـَهذيب التهذيب والوافي بالوفيات: فنتكئ اهـ. وقد ذكر هذه القصة أيضا كثير من العلماء، نقل الصفدي في الوافي بالوفيات، وابن حجر العسقلاني في تَـهذيب التهذيب، والزركلي في الأعلام، وابن الجوزي في صفة الصفوة، والمنتظم، والذهبي في سير أعلام النبلاء وتاريخ الإسلام، وتذكرة الحفاظ، والمزي في تَـهذيب الكمال، وتقي الدين بن عبد القادر الغزي في الطبقات السنية في تراجم الحنفية، وقال بعد ذكر القصة: ثم قال أحمد: حدثني رجل من أصحاب ابن المبارك، قال: رأيت ابن المبارك في المنام، ومعه شيخ مهيب، فقلت: من هذا معك؟ قال: أما تعرف، هذا سفيان الثوري! قلت: من أين أقبلتم؟ قال: نحن نزور كل يوم إبراهيم بن طهمان، قلت: وأين ترونه؟ قال: في دار الصديقين، دار يحيى بن زكريا عليه الصلاة والسلام اهـ.
 
ويؤخذ مما ذكرناه عن الإمام أحمد بن حنبل مشروعيةُ القيام الذي جرى عليه العمل في الاحتفال بالمولد النبوي عند ذكر ولادته صلى الله عليه وسلم، فإن الإمام أحمد كان مع جلالته نـهض عن الاتكاء وهو عليل فاستوى جالسا عند سماع اسم إبراهيم بن طهمان احتراما وتوقيرا له، وهذا صريح في أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان يذهب إلى أن فعله هذا من احترام العلماء وتوقيرهم المأمور شرعا، فعلى هذا ينبغي لكل من سمع اسمه صلى الله عليه وسلم أن ينهض ويقوم إجلالا وتوقيرا له صلى الله عليه وسلم، بالقياس الأولوي، وقد أمرنا الله تعالى بتوقيره في الآية المذكورة في بداية هذا البحث.
 
وممن فعل ذلك القيامَ الإمامُ المجتهد قاضي القضاة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي، ففي طبقات الشافعية الكبرى لابنه عبد الوهاب ج6 ص174: أن والده الإمام السبكي حضر مرة ختمة بالجامع الأموي، وحضرت القضاة وأعيان البلد بين يديه وهو جالس في محراب الصحابة، فأنشد المنشد قصيدة الصرصري التي أولها:
 
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب
 
فلما قال: وأن تنهض الأشراف عند سماعه- البيت حصلت للشيخ حالة وقام واقفا للحال، فاحتاج الناس كلهم أن يقوموا فقاموا أجمعون، وحصلت ساعة طيبة. انتهى بلفظه. والأبيات التي أشار إليها هي:
 
قليل لمدح المصطفى الخط بالذهب    على فضة من خط أحسن من كتب
 
وأن تنهض الأشراف عند سماعه  قياما صفوفا أو جثيا عـلى الركب
 
أما الله تعظيما له كتب اسمـه   عـلى عرشه يا رتبة سمت الرتب
 
وقد استحسن القيام عند ذكر مولده صلى الله عليه وسلم كثير من أجلة العلماء الذين أدركناهم وغيرهم من المتقدمين والمتأخرين.
 
ومما يؤيد ما ذكرناه أيضا ما اختاره النووي من استحباب القيام لأهل الفضل، وقد ألف فيه جزءً مفردا، وذكر فيه أحاديث مرفوعة وردت في ذلك، وقد وافقه كثيرون من محققي الفقهاء وأكابر العلماء، ولسنا في موضع ذكر الأدلة التي ذكروها في كتبهم، لكن في كتاب الإمام النووي الكفاية والقناعة لمن تأمل فيه منصفا.
 
فإذا كان القيام لأهل الفضل مشروعا بل مستحبا فلا شك عند أحبابه صلى الله عليه وسلم المتمسكين بسنته بدون تحريف أو تأويل باطل المتحررين عن اتباع هوى أنفسهم وعن التعصب الطائفي السالمين من ضلالات البدع ومساوئ الآراء أن القيام عند ذكر طلوع بدره وظهور نوره أول مرة في أشرف بلاد الله وجوار بَيْتِهِ الشريف يكون أولى وأعلى من القيام لواحد من أهل الفضل من أمته صلى الله عليه وسلم، فإنه تشرف بكونه من أمته صلى الله عليه وسلم وبإيمانه به ومتابعته له فاستحق بذلك الاحترامَ والقيامَ له.
 
فمن الغريب إنكار احترام مَن تشرف به ذلك الفاضل مع إقرار إباحة الاحترام والقيام لذلك الفاضل.
 
هذا ومانعو هذا القيام عند ذكر مولده الشريف لا يمنعون القيام لأصحابـهم وزملائهم وللملوك والسلاطين والرؤساء، بل هم أشد الناس تصنّعا واستمالةً للقلوب، فترى كثيرا منهم يفعلون توددا وتملقا مع المحسنين التجار والأغنياء المتبرعين ما لا يرضى به ضمير حُرّ من المداهنة والملاينة والتواضع لهم طمعا لما في أيديهم، وقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه.
 
ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه.فإنه إذا كان إكرام ذي الشيبة المسلم وحاملِ القرآن من إجلال الله تعالى أفلا يكون إكرامُ من أُنزِلَ عليه القرآنُ بالقيام ونحوه عند ذكره من إجلال الله تعالى بل هو أولى وأجلّ من إكرام ذي الشيبة وحامل القرآن. ولعلّ هذا من القياس الأولويّ الذي هو أحد أدلة الشريعة المطهرة عند أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم.
 
وقد يؤيد ذلك أيضا ما قاله كثير من العلماء من استحباب القيام للمصحف الشريف، منهم شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، ففي فتاويه ص29: أنه سئل عن القيام للمصحف هل هو مستحب أولا؟ فأجاب بأنه يسن له كما يسن للفضلاء، وهذا هو المختار خلافا لمن قال: إنه بدعة والله أعلم اهـ
 
وقال أيضا في أسنى المطالب شرح روض الطالب: في فتاوى النووي والتبيان: أنه مستحب؛ لأنه مستحب للفضلاء من العلماء والأخيار، فالمصحف أولى، وقال بعض المتأخرين: صح أنه عليه الصلاة والسلام قام للتوراة فالمصحف أولى؛ لأنه أشرف الكتب اهـ.
 
وقال ابن حجر الهيتمي في التحفة: ويسن القيام له كالعالم بل أولى، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قام للتوراة وكأنه لعلمه بعدم تبديلها اهـ.
 
ومما قد يؤيد ذلك أيضا ما ذكره صاحب در المختار شرح تنوير الأبصار قال: تقبيل المصحف قيل: بدعة، لكن روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأخذ المصحف كل غداة ويقبله ويقول: عهد ربي ومنشور ربي عز وجل، وكان عثمان رضي الله عنه يقبل المصحف ويمسحه على وجهه اهـ.
 
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري: نقل عن ابن أبي الصيف اليماني أحد علماء مكة من الشافعية جواز تقبيل المصحف وأجزاء الحديث وقبور الصالحين. وبالله التوفيق اهـ.
 
قال ابن السبكي في طبقات الشافعية الكبرى: سمعت الوالد رحمه الله -يعني الإمام السبكي- في درس الغزالية يقول وقد سئل عن الدليل على تقبيل المصحف: دليله القياس على تقبيل الحجر الأسود ويد العالم والوالد والصالح ومن المعلوم أن المصحف أفضل منهم اهـ.
 
وقال ابن كثير في البداية والنهاية: يقال: إن عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه لا يعرف له ذنب بعدما أسلم، وكان يقبل المصحف ويبكي ويقول: كلام ربي كلام ربي. احتج بـهذا الإمام أحمد على جواز تقبيل المصحف ومشروعيته اهـ.
 
فإذا كان تقبيل المصحف الشريف والقيام له مشروعين عند كثيرين من العلماء المذكورين وغيرهم فالقياس أن القيام عند ذكر اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم الذي اعتاده الناس في احتفالات المولد النبوي مثله وليس له مانع يعتدُّ به.
 
فبهذا تعلم أن المانعين للقيام عند سماع اسمه الشريف متشددون وأنـهم مبالغون في التنطع في الدين وقد قال صلى الله عليه وسلم: هلك المتنطعون قالها ثلاثا.
 
ومن العجب أن المانعين من إقامة المناسبات احتفالا بمولده الكريم، والقيام عند ذكر ميلاده تعظيما له، يزعمون أنهم سلفيون وينتمون إلى الإمام أحمد بن حنبل، مع أنهم يخالفونه في كثير مما استحسنه أو أجازه كالقيام عند ذكر اسمه الشريف أو ميلاده كما في مفهوم قصة الإمام أحمد المذكورة على طريقة القياس الأولوي، وصدق ابن شاهين حيث يقول: رجلان صالحان بليا بأصحاب سوء، جعفر بن محمد وأحمد بن حنبل، ذكر ذلك حافظ الدنيا ابن عساكر في تبيين كذب المفترى ص164. نعوذ بالله من الخذلان والبهتان. والله الموفق.

اضف تعليقك هنا

لم يتم النشر البريد الإلكتروني الخاص بيك.

القرآن الكريم

وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ

الآية رقم 105

من سورة الأنعام

الانضمام إلينا في الفيسبوك